المستشار / الدكتور محمد شعيتاني*
عديدة هي الأسئلة الكبرى، التي تتطلب رؤية واجابة حقيقية عليها. وذلك لأن وجود الأسئلة الملحة في حياة الإنسان، دون توفر امكانية بلورة رؤية واضحة واجابة صريحة عليها، يزيد من رماديتها ويدخل المرء في متاهات ودهاليز التردد والضياع. لذلك فنحن بحاجة ماسة باستمرار إلى الاجابة على اسئلة راهننا، والبحث في صياغة رؤية متكاملة عن تحديات واقعنا، وسبل الخروج من مأزق وأزمات الحاضر.
ولعل من أهم هذه الأسئلة المطروحة اليوم: هل يمكن أن يعيش الإنسان حياة مشتركة وسليمة مع الآخر بغض النظر عن هويته ونقاط التمايز العديدة بينهما. لا يمكن على الصعيد الواقعي أن تكون هويات البشر واحدة أو رؤيتهم للأمور والقضايا متطابقة. إذ ان الاختلاف في الهوية والرؤية والنظرة إلى الأشياء من نواميس الحياة. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتصور الحياة من دون هذه الاختلافات والتمايزات والتنوعات. ولكن في الوقت نفسه، لا يمكن للإنسان أن يعيش وحده، منعزلاً عن الآخرين، فالتعايش مع الآخرين أضحى اليوم ضرورة، ولا فكاك منها. لذلك كيف يمكن صياغة حياتنا الاجتماعية والعامة وفق هاتين الحاجتين: حاجة الاختلاف والتمايز على صعيد الهوية ونظام المعنى والتفكير. وحاجة التعايش المشترك مع الآخر المختلف والمغاير. فلا يمكن للإنسان أن يهرب من حقائق واقعه وعصره، كما أنه ليس بمقدوره أن يعيش وحده، بعيداً عن الآخرين وشؤونهم المختلفة. فدمج الهويات العميقة في حياة الإنسان، ليس ممكناً لأن كل طرف يرى في هويته العميقة الجدارة وأهلية الاستمرار والغلبة والتفوق والتمكن. كما أن الانحباس في هذه الهويات، يضر بحالة الوحدة والتعاون بين بني الإنسان في دوائر حياتهم المختلفة.
فمحاولات الدمج والتذويب، لا تفضي على الصعيد العملي، إلا للمزيد من التشبث بالخصوصيات وكل ما هو مميز للذات عن الآخر. كما أن مشروعات الاستغناء عن الآخرين.
لهذا نحن بحاجة الى ان نبحث في صياغة أخرى للحل والمعالجة، لا تلغي حق الاختلاف والتنوع والتعددية، كما انها لا تشرع للانحباس والعزلة أو للفوضى والانفلات.
ولفهم هذه الظاهرة كما يعبر أحد الفلاسفة جوزيف ياكوب وما تنبئ به، لابد من ادراك معنى الانقلاب التاريخي الذي تشتمل عليه فبعد حركة توحيد طويلة أدت إلى انتصار الدولة – الأمة في القرن العشرين- سيكون القرن الواحد والعشرون، دون شك، قرن تحطيمها، لأن السعي إلى الدمج المتعارض مع التفتيت، يدفع، من الآن فصاعداً التمايز قدماً أمامه.
إذاً، فهذا المنعطف التاريخي الحقيقي، المترافق بشكل متناقض مع تحرك نحو الكونية، يفرض تقلباً في مفهوم الدولة القومية، والاعتراف بامكانية توزيع سلطة الدولة، والحكم الذاتي في اطارها، والتمايز المحلي.
ومرتكزات الصيغة التي نراها ضرورية، وقادرة في آن واحد على ضبط العلاقة بين حق الاختلاف وضرورات العيش المشترك، هي الأمور التالية:
نبذ المساجلات والمماحكات :
لعلنا لا نأت بجديد حين القول: ان حوار الهويات مع بعضها، مع ضرورته وأهميته، إلا انه لا يستطيع صياغة العلاقة بين حق الاختلاف وضرورات العيش المشترك. لأن التراكم التاريخي، يحوّل الحوار إلى سجال ومماحكة، كل طرف يحاول اثبات صوابية رأيه وموقفه. فتضيع في معمعة السجال الجوامع المشتركة، وتشحن النفوس والعقول بحقائق الخلاف والنزاع والصدام.
لذلك فإننا نرى أن من مرتكزات صياغة العلاقة بين حق الاختلاف وضرورات العيش والوحدة، هو الخروج من شرنقة سجالات الهوية ومماحكات الأنا والآخر إلى رحاب المواطنة بكل ما تعني من مشاركة ومسؤولية وتجاوز للمحن التاريخية. وهذا لا يعني بطبيعة الحال إنهاء الحوارات العقدية والأيدلوجية، وإنما ما نريد قوله في هذا الصدد هو: ان الحوارات العقدية والايدلوجية تؤتي ثمارها الايجابية، حينما يتحقق مناخ من الفهم والتلاقي على قاعدة مشتركة صلبة. لذلك فإننا نشعر بأهمية ان تكون حوارات المختلفين بعضهم مع بعض على قاعدة الوطن والمواطنة بعيداً عن التمايزات والاختلافات العقدية والأيدلوجية والمذهبية.
وحينما تتعمق حقائق الوطن وثوابت المواطنة، يكون الحوار العقدي والأيدلوجي طبيعياً ومثمراً وبعيداً عن كل حالات السجالات العقيمة والمماحكات التي تزيد الإحتقان وتفاقم من سوء الفهم والظن. إننا نشعر بأهمية العيش المشترك، وتوطيد أسس التلاقي والتعاون، ولكن طريق ذلك لا يمر عبر المماحكات والسجالات العقيمة، وإنما عبر تعزيز قيم المواطنة ومتطلبات العيش المشترك. فصخب السجالات الايدلوجية، تضيّع كل فرص التفاهم والتلاقي. لذلك نحن بحاجة إلى تجاوز كل حالات السجال والمماحكة، من أجل ارساء دعائم للحوار والتلاقي، لا تنطلق من التباينات الايدلوجية، بل من الجوامع الإنسانية والعقدية والثقافية.
صيانة حقوق الإنسان:
لا يمكننا على المستوى العملي من صياغة العلاقة على نحو ايجابي بين حق الاختلاف وضرورات العيش المشترك، إلا بالإعلاء من شأن حقوق الإنسان، والعمل على صيانة هذه الحقوق، بعيداً عن التمايزات الايدلوجية أو الاختلافات الفكرية والسياسية. فالعلاقة جد عميقة بين مبدأ العيش المشترك ومفهوم حقوق الإنسان، حيث ان حقوق الإنسان بكل ما تحتضن من قيم ومتطلبات وحاجات، هي الحاضن الأكبر للمشروع المشترك.
لذلك من الضروري ان نعتني بخلق الوعي الحقوقي، القادر على صيانة كرامة الإنسان.
ولابد أن يدرك الجميع ان قيم الدين العليا لا يمكن أن تشرع للعسف والإكراه وانتقاص حقوق الإنسان. فالدين الإسلامي بكل نظمه وتشريعاته، جاء من أجل تحرير الإنسان وصيانة حقوقه وكرامته. لذلك فإن الدين هو الرافد الأول الذي ننتزع منه حقوق الإنسان الأساسية.
فبوابة العيش المشترك في كل الأمم والمجتمعات، هي صيانة حقوق الإنسان وحماية كرامته وتعزيز حضوره ودوره في مشروعات التنمية والعمران.
والاختلاف في الهوية أو الانتماء الايدلوجي أو القناعات الفكرية والسياسية، لا يشرع بأي حال من الأحوال إلى انتهاك الحقوق. فالاختلافات ليست سبباً أو مدعاة لنقصان الحقوق، وإنما تبقى حقوق الإنسان مصانة وفق مقتضيات العدالة ومتطلبات العيش المشترك.
فالعيش المشترك ليس ادعاء يدعى، وإنما هو مجموعة من الحقائق والمتطلبات تفضي إلى صياغة الواقع الاجتماعي المتعدد على أساس الحوار والاحترام المتبادل ونبذ ثقافة الكراهية والمفاضلة الشعورية، وتعميق ثقافة العفو وحسن الظن والتسامح، فالعيش المشترك هو مشروع مفتوح على كل المبادرات والخطوات الايجابية، التي تستهدف تنقية الفضاء الاجتماعي والثقافي من كل الشوائب، التي تعكر صفو العلاقة وتحول دون تنميتها على الصعد كافة.
وان طبيعة الأحداث والتطورات التي تجري في المنطقة، تدفعنا إلى القول: ان من الأهمية القصوى ان نتعامل مع حق العيش المشترك في داخل مجتمعاتنا، بوصفه من الحقوق المقدسة، التي ينبغي ان نقبض على متطلباتها، ونعمق موجباتها، ونمنع أي محاولة (من أي جهة كانت) لخدشها أو محاربة أسسها ولوازمها. وان المرحلة بكل تحولاتها المتسارعة وتحدياتها الشاخصة بحاجة إلى تعزيز خيار ومشروع العيش المشترك، لأنه القاعدة الصلبة التي تمنع اختراقنا، وتحول دون نجاح مشاريع الهيمنة والتفتيت.
*باحث في الشؤون الإقتصادية والسياسية والإدارية – عضو في الهيئة الإدارية لغرفة التجارة العربية البريطانية – منسق هيئة حوار الأديان
إقرأ أيضا: الرأي العام: مفهومه تكوينه وأيديولوجياته