لا يتردد الطبيب النروجي مادس غيلبرت في المجيء الى غزة كلما تعرضت لعدوان اسرائيلي. الرجل يأتي لتوظيف خبراته الواسعة من أجل نجدة اهل غزة، لا سيما وأن القطاع الصحي يعاني من مشكلات عدة بسبب الحصار. الطبيب النرويجي المسافر من مدينة بورسغرون، يعدّ من أبرز الأطباء الناشطين في العمل التضامني على مستوى العالم. متخصّص في التخدير ويشغل منصب رئيس قسم طب الطوارئ في مستشفى جامعي في شمال النرويج، ويعمل أستاذاً في طب الطوارئ في جامعة “ترومسو” منذ عشرين عاماً. وهو عضو في حزب اشتراكي نرويجي معروف باسم “الحزب الأحمر”.
وليست هذه أول مرة يزور فيها القطاع، اذ قصد غيلبرت غزة أول مرة ضمن لجنة الإغاثة النرويجية مع مواطنه الجراح إريك فوس، وعمل في مستشفى “الشفاء” وسط القطاع خلال العدوان الإسرائيلي في 2008- 2009، اثناء العملية التي عرفت بـ”الرصاص المصبوب”، واثناء حرب “حجارة السجيل” التي بدأت بالقصف الإسرائيلي في 14 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 تحت اسم عملية “عمود السحاب”. يسمونه في مجمّع الشفاء بـ”الملاك”، وكتبوا اسمه على إحدى غرف المستشفى تكريماً له وعرفاناً لجميله.
زار غيلبرت غزة ما بين الحربين أكثر من مرّة، للاطمئنان على وضع اهلها ووضع الكوادر الطبيّة فيها، الأمر الذي شكل حافزاً اضافياً للعاملين الصحيّين فيها للاستمرار في العمل رغم الظروف الصعبة.
وقد وجه الطبيب رسالة الى العالم مخاطبا ضميرهم الانساني عله يفلح في تحقيق شيئا ما . وفيما يلي نص الرسالة:
أصدقاء الأعزاء،
ليلة البارحة كانت قاسية جدًا. الاجتياح البري لغزة خلّف أعدادًا طائلة من الجرحى الفلسطينيين من كل الأعمار، كلهّم مدنيون، كلهم أبرياء، جاؤوا مشوهين، ممزقين، نازفين، مرتجفين، ومحتضرين.
الأبطال في سيارات الإسعاف وفي كل مستشفيات غزة يعملون في مناوبات مددها بين 12 و24 ساعة، وجوههم شاحبة من شدة التعب والضغط اللاإنساني للعمل (دون رواتب في كامل مستشفى الشفاء منذ أربعة أشهر). إنهم يعتنون بجرحاهم ويوزعون المسؤوليات بين العاملين، ويحاولون استيعاب الفوضى العارمة للجثث والأشلاء والأطراف، وللبشر الذين يمشون والذين لا يمشون، الذين يتنفسون والذين لا يتنفسون، الذين ينزفون والذين لا ينزفون، لهؤلاء البشر!
هؤلاء البشر يُعامَلون اليوم، مرة أخرى، كالحيوانات، من قبل “أكثر جيوش العالم أخلاقية” (!)
احترامي لهؤلاء الجرحى، في صمودهم الصامت وسط الألم والعذاب والصدمة، بلا حدود. تقديري للطاقم والمتطوعين بلا حدود. قربي من الصمود الفلسطيني منحني القوة، رغم أني أحيانًا لا أريد سوى أن أصرخ، أن أحتضن أحدًا بقوة، أن أبكي، أن أشم وجه طفل دافئ مغطى بالدم وشعره، أن أحميه في عناق طويل- لكننا لا نملك الوقت لذلك، ولا يملكونه هم.
تمر وجوه باهتة مغطى بالرماد- لا! إنها حمولة جديدة من عشرات الجرحى المشوهين النازفين. ما زالت غرفة الطوارئ تعوم في برك من الدماء وأكوام من الضمادات المنقوعة بالدم الذي يقطر منها، عاملو النظافة في كل مكان يتحركون بسرعة لمسح الدماء وانتشال المناديل المطروحة والشعر والملابس وأنابيب السوائل – إنها مخلفات الموتى، تؤخذ كلها ليتم استبدالها بأخرى جديدة، ليتكرر كل هذا مجددًا. أكثر من مئة حالة وصلت إلى مستشفى الشفاء خلال الساعات الأربعة والعشرين الأخيرة. هذا عدد كافٍ لمستشفى كبير مجهز بكل شيء، لكن هنا لا نكاد نجد شيئًا: لا كهرباء، لا ماء، لا عدّة استهلاكية، ولا حتى طاولات أو أدوات أو أجهزة مراقبة. كلها صدئة، تبدو وكأنها مسروقة من متحف عن مستشفيات الماضي. لكن ليس بين هؤلاء الأبطال من يتذمر. إنهم يباشرون عملهم كمحاربين، ويمضون به بحزم عظيم.
وأنا أكتب لكم هذه الكلمات، وحيدًا في سريري، تنهمر دموعي. إنها دموع حارة وبلا فائدة، دموع الحزن والألم، دموع الغضب والخوف. لا يعقل أن كل هذا يحدث فعلًا!
الآن، في هذه اللحظة، تستأنف أوركسترا آلة الحرب الإسرائيلية سيمفونيتها الشنيعة: وابل من الذخيرة التي أطلقتها قوارب قوات البحرية تسقط الآن على الشاطئ، الـF16 تهدر، طائرات الاستطلاع تزنّ، والأباتشي تضجّ. كل هذا تصنعه وتموّله الولايات المتحدة.
سيد أوباما، ألكَ قلب؟
أدعوك لقضاء ليلة -ليلة واحدة فقط- معنا في الشفاء، لربما متنكّرًا كعامل نظافة.
أنا على يقين تام من أن هذه الليلة ستغير التاريخ.
لا أحد يملك قلبًا وقوة يمكنه إمضاء ليلة في مستشفى الشفاء دون أن يعزم على إنهاء المذبحة بحق الشعب الفلسطيني.
لكن أولئك الذين لا قلوب لهم ولا رحمة عندهم قد أجروا حساباتهم وخططوا لـ”داهية” أخرى يصبّونها على غزة.
أنهار الدماء ستستمر بالجريان في الليلة المقبلة. أستطيع سماعهم يدوزنون آلات الموت.
أرجوكم، افعلوا ما بوسعكم. ما يحدث لا يمكن أن يستمر.
د. مادس غيلبرت
بروفيسور ورئيس قسم طب الطوارئ،
مستشفى جامعة شمال النرويج