ألقى المهندس منير عيسى كلمة في مؤتمر الطاقة الاغترابية الذي انعقد في بيروت في حضور وزير الخارجية والمغتربين الوزير جبران باسيل وشخصيات اغترابية من دول العالم تحدث فيها عن تجربته الاغترابية في دولة قطر التي استمرت قرابة إحدى وستين عاماً وهنا نص الكلمة:
معالي وزير الخارجية والمغتربين الاستاذ جبران باسيل المحترم،
أصحاب المعالي والسّعادة والسّيادة،
أيّها الحضور الكريم،
تحيّة وبعد،
أَستَهِلُّ كلمتي هذه بتقديم خالص الشُّكر لِكُلِّ مَن أتاحَ لي الفرصةَ لكي أنقُلَ إليكم اليوم بعض المحطّات من تجربتي الإغترابيّة وأُفصِحَ لكم عمّا يُراودني من تساؤلاتٍ كَمُغْتَرِبٍ لبنانيٍ عادَ إلى وطنِه الأمّ بعد طول غياب بقلبِ مُفْعَمٍ شَوقاً ومحبّةً.
أعزّائي، هي خُلاصةُ إحدى وستّينَ عاماً من مسيرةٍ إغترابيّةٍ بدأت عامَ 55 من القرن الماضي في أرض الخليج العربي أستذكرها اليوم معكم حيثُ لم تكن أيّ من وسائل الراحة والرفاهية المعروفة اليوم متوافِرَةً في وُجُهات الإغتراب. هي عُصارَةُ أكثرِ من نصف قرنٍ من غربةٍ دَفَعَنا إليها طموحُ الشّباب وروحُ المغامرةِ والرّغبة في تحسين الوضع الاقتصادي للعائلة، وكانَ العنوانُ الرئيسيُ لتلك المرحلة التحدّي على جميع أنواعه، وبخاصة تحدّي الذات وتذليل الصُّعوبات على اختلافها، في ظلّ الظروف الإقتصاديّة الصّعبة السّائدة حينَها في لبنان.
كانَتْ قطرُ في حينها في بداية مرحلة تطوّرها العمراني والاجتماعي، وانْخَرَطْنا كلبنانيين في هذه التجربة التطويريَّة الإنمائيَّة، فَكانت للجالية اللّبنانية اليدُ الطولى في هذا المجال، حيثُ ساهمت السّواعِدُ اللبنانيّةُ في البناء العمراني، وساهَمَ الفكرُ الإغترابيُّ اللبنانيُّ في هَنْدَسَةِ وَصَهْر نَمَطٍ تجديديّ اعْتَمَدَ على تعدُّد مصادِرِ المعرفة العلميّة المتخصّصة واستقراء المستقبل لوضع خريطة عملٍ هَدَفُها مواكبة التطوّرات العالميّة وتعزيز القدرات الإقتصاديّة المحليّة والعمل على الإستفادةِ منها في تنمية القطاعَيْن التعليمي والاجتماعي وتطوير الخدمات الإجتماعيّة كالطّبابة والتّعليم، فكان الحضورُ الاغترابي اللبناني عنواناً للحضارة الفكريّة والثقافيّة والاجتماعية، وكانت الفرصة متاحةً للجميع للمُساهمة في هذه النّشاطات، كلّ بحسب اختصاصِه وخبرتهِ.
وهنا لا بُدَّ من التوقّفِ عند تجربة المدرسة اللبنانية في قطر، تلك التجربة الفريدة التي بَدَأْناها كجاليةٍ لبنانيةٍ ووضَعنا أسُسَها في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، ليَبْدَأَ التَّدريسُ فيها عام 1976. وقد كان الغَرَضُ الأساسيُّ من هذا الصّرح التعليميّ نابعاً من شعورِنا بوجوب إعطاءِ العائِلة اللبنانية في الدّوحة فرصةً للتماسُك والحفاظ على أصليّة نَسيجِها المجتمعيّ اللبناني والابتعاد عن التجاذُبات المختلفة التي فَرَضَتْها الظُروفُ الخاصّةُ في لبنان آنذاك. فكانت تلك التجربةُ الرّائدةُ من أهمّ الإنجازات الحضاريّة التي تَفَرَّدَت بها الجاليةُ اللبنانيةً في الوطن العربي.
إضافةً إلى ذلك، فقد حَرَصنا على أن تَتَبَنّى المدرسةُ المنهجَ التعليميَ اللبنانيّ، لِوَعْيِنا لأهميّة هذا المنهج من حيث جودةُ مستوى برامجه وخاصّيّتُهُ في تعدُدِ لُغاتِهِ ومقدرتُهُ غلى تمكين الطلّاب تعليميّاً وثقافيّاً، بحيثُ تُتاحُ لهم الفرصةُ للإلتحاق بالبرامج اللبنانية حيثُما شاءتِ الظروفُ.
ولا بدّ من التّنويه بأنّ المدرسة اللبنانيّة، بفضل الجهود الدّؤوبة للحفاظ على مستواها المتميّز، حائِزَةٌ على شهادة عالميّة لمعايير الجودة التعليمية accreditation، ممّا يمنحُها مركزاً في الطّليعة من بين مؤسّسات الاغتراب التربويّة ويعطي الفرصة لطلّابها لاكمال تحصيلهم الثانوي كما الجامعي في مختلف مدارس وجامعات العالم. يكفي أن أقولَ- وأقولُها بِفخرٍ- أنّ المدرسة اللبنانية في قطر تَضُمُّ اليوم ما يربو على 2400 طالب وطالبة، وهنالك قائمةُ انتظارٍ تزيد على 700 طالب ينتظرون أن نجد لهم مكاناً مناسباً تابعاً للمدرسة اللبنانية.
هُنا َأغْتَنِمُ المناسبةَ لأتَقَدَمَ بالشّكر من الحكومة اللبنانيّة وبشكلٍ خاصّ من وزارة التربية والتّعليم العالي لدعمها المستمرّ للمدرسة اللبنانيّة في قطر، حيث اعتادت انتداب هيئةٍ لاجراءِ الامتحانات كلّ سنةٍ، كما تجلّى هذا الدَّعمُ بمشاركةٍ تمثيليّةٍ في مَفاصِلِ الحياة التعليميّة، وعلى سبيل المثال، كانت الامتحاناتُ الرسميّةُ تُجرى في الوقت عينهِ في لبنان وفي المدرسة اللبنانيّة في الدوحة، ممّا أسبَغَ غلى المدرسة شَرعِيّةً تعليميّةً انْسَحَبَتْ على نتائج الامتحانات الرسميّة فيها، و أسهَمَ في بثّ روح الثّقة في جودة برامجها وكفاءةِ القيِّمينَ عليها.
كذلك، عليّ التّنويهُ بدور السفراء اللبنانيين الذين تعاقبوا في قطر، وأخصُّ بالذكر سعادة السفير السابق السيّد حسن سعد وسعادة السفير الحالي السيّد حسن نجم الذي يعمل بلا كلل لِخدمة الجالية ولمّ شمل أعضائِها وتوحيد توجُّهاتهم والحفاظ على وحدة اللبنانيين في قطر.
أيّها الحضور الكريم،
هو موجًزٌ من عُمرٍ مرَّ في الاغتراب، ولَقَطاتٌ سريعةٌ قد لا تفي ذاك العمر حَقَّهُ، إنّما هي تُعَبِّرُ عن الإنجازات الرائعة التي تَمَيَّزّت بها تلك المرحلة الاغترابيّة. على أنّ مسيرَةً كهذه، ما كان كُتِبَ لها النّجاحُ في بيئةٍ إغترابيّةٍ أقلّ ما يقال عنها أنّها كانت قاسيةً من حيثُ الطبيعة المناخيّة وظروف العمل الصارمة، لَولا الترحاب الذي لقيناه نحن المغتربون من المسؤولين القطريين ومنَ الشعب القطري، وحسن المعاملة التي حَظَيْنا بها، والرّعاية التي أُحِطْنا بها على المُستَوَيَيْن الرسمي والشّعبي.
وإن كان هذا الترحابُ والحسن في المعاملة قد قلّلا من قسوة الغربة، إلّا أنّه ما من شيئ استطاعَ أن ينتزعً من القلب ذكرى الوطن الغالي الذي بقي الحنينُ إليه يَطْبَعُ الأقوال ويوجّهُ الأفعال والقرارات.
وكانَ الهاجسُ الأكبر للسّواد الأعظم من الللبنانيين رفاق الدّرب الإغترابيّة، يتمحورُ حول الخوف ممّا ينتظرُ عائلات المغتربين في رحلة العودة.
وكان السّؤال التالي يطرح نفسه دوماً: في ظلّ الظّروف المعقّدة السّائدة في لبنان، هل ستكون العودة، تماماً كما كان الرحيل الأصليّ، مغامرة إلى عالمٍ عرفناهُ واشتقنا إليه إنّما غَدا مجهولاً بالنّسبة لنا؟
وهل سَيَسْمَحُ الجوُّ العامُّ، المتلبّدُ سياسيّاً وأمنياً واقتصادياً واجتماعياً في لبنان، بتأمين الطمأنينة والشعور بالأمان والاكتفاء الاقتصادي، وكلُّها عواملٌ كانت أساساً من أهمّ المُحفّزاتِ لرحلة الإغتراب؟
واذا كانت ديناميكيّةُ الحركةِ هي سنَّةُ الحياة وأساسُ كلِّ تطوّرٍ فيها، وجب السّؤالُ:
أين هو لبنانُ اليومَ من لبنانَ الأمسِ؟ لا بل: أين هو لبنانُنا، نحن المغتربون الّذين وظَّفنا اغترابَنا لإنمائِه واعلاءِ شأنِهِ، فَإذْ بنا نكادُ لا نَعرِفُهُ وكأنَّهُ بلدٌ آخرُ حتّى أنّ المقارنةَ بين الأمس والحاضر لم تَغُدْ قائمةً، لا من حيثُ الطبيعة والمناخ والبيئة، ولا من حيث التّواصُل الاجتماعيّ أو العيش الكريم، ولا من حيث توفير ظروف العمل أو الأمن الحياتيّ؟
أيّها الأعزاء،
إنّ التجربةَ الاغترابِيَّةَ اللبنانيّةَ فريدةٌ من نوعها، حيث أنّها استمرّت على امتداد العصور في مختلف أرجاء المعمورة، وتَجْرِبَتُنا في قطر قد زادَت واستزادت وأحْسَنَت تفاعلها مع محيطها الإغترابيّ مع الحفاظ على الوطن كَنُقطة التّلاقي الأخيرة والحتميّة. وأودّ أن أذكّر الجميع أنّ الطاقات الإغترابيّة اللبنانيّة ليست بحاجة للتشجيع من أجل العودة إلى وطنها، إنّما هي تتطلّع لوجود دولة تتبنّى الشّفافيّة والمصداقيّة وتملك مقوّمات الدولة الحديثة لخدمة المواطن وحمايته ودعم المجتمع.
إنّ الغربة هي مدرسةٌ وثقافةُ شاملةُ، عسى أن يتمكّن لبنان من الإستفادة من مُغْتَرِبيه واجتذاب طاقاتهم، فنحنُ إلى خدمة وطننا توّاقون.
شكراً لكم لحسن اصغائكم، شكراً لكلّ من ساهم في تنظيم وانجاح هذا المنتدى وأتمنّى لكم الإستمرار ودوام النجاح.