Skip to content Skip to sidebar Skip to footer

في تقديمها كتاب “مغتربة في وطنين “سعدى الأسعد فخري”*: الأيام في الغربة تمر ببطء…وكل شجرة في حديقتي تسمع أنين غربتي واشتياقي

أصابتني شرارة من الحماسة عندما شرفتني صديقتي العزيزة ليليان عقل، بتقديم كتابها الرائع “مغتربة في وطنين “.
كمغتربة مخضرمة،رذاذ شلال ذكرياتي الواقعية والوجدانية غسل أفكاري وأعادته بسهولة إلى عمر التاسعة عشرة والسنين الأولى التي عشتها في أكرا٠
كانت الأيام تمر ببطء، وتتلاعب بي بين شوق وحنين إلى الأهل والأحباب، وبين فرحتي بإستقلاليتي في بيت أنا سيدته،كانت كل شجرة في حديقته الكبيرة، تسمع أنين غربتي وإشتياقي إلى أمي وأبي وأخواتي، خطوط الهاتف يومذاك كانت داخلية فقط،كان علينا أن نتصل السنترال ونطلب منه مكالمة ننتظرها أحيانا ساعات طويلة، ” دقت ” السنترال كانت مميزة، وكنت عند سماعها تختلط معها دقات قلبي من الفرح ،يبدأ الكلام في كل مرة بالشوق والحنين والأخبار السارة “طبعا”،لكن صوت أمي بلهفتها الحزينة كان ينهي المكالمة بدموع كنت أذرعها في كل مرة.
شيئا، فشيئا تعودت على أكرا، أحببتها بكل ما فيها من عادات وتقاليد، إستمتعت بسماعها والتعرف عليها٠ أمور كثيرة لم أكن أتوقع أن أجدها هنا، في ذلك الزمن البعيد، مثل التعليم الإلزامي والضمان الصحي، ما يوفر أجواءا من الطمأنينة وراحة العيش فيها٠
غانا، كما عرفتها، وعرفت شعبها الصديق، متمسكة بعاداتها وتقاليدها، فخورة بكل محطات تاريخها، عرفت كيف تجتاز مرحلة الإستعمار الانكليزي بوعي وحكمة، وكيف تتقبل ما يفيدها من ممارسات المستعمر فتتبناه وتحافظ عليه، وتستبعد وتزيل ما يتناقض مع قيمها وخيارات شعبها، من الأمثلة التي لفتتني في هذا الإطار، أنه منذ إستقلال غانا سنة ١٩٥٧ لا يزال قضاتها ،خاصة في المحكمة العليا يرتدون الثوب الأسود ويعتمرون “الباروكة” البيضاء ،مع ان معظم البلدان التي كانت مستعمرة مثلهم، إعتبرت هذا التقليد، وبخاصة “الباروكة” البيضاء رمزا للإستعمار واستغنت عنه.
حاول بعض الغانيين المطالبة بإلغائه، لكن الأكثرية منهم بكل قناعة وثقة بالنفس تمسكت به وحافظت عليه، لأن لهذا الزي رهبة كبيرة داخل قاعة المحكمة وهيبة على المجرمين والخارجين عن القانون٠
هكذا قضيت في هذا المكان الجميل، أحلى الأوقات مع لبنانيين وغانيين وأجانب من بلاد مختلفة من العالم، قبل أن تسيطر شاشات التلفزة على حياتنا، لم يكن يمر يوم من دون سهرة تجمعنا، يتشعب في خلالها الحديث ويطول، كأنه فرصة لنسيان هم العمل ومشاكل الحياة ٠مع مرور الوقت تأكدت لي صحة ما كان يقال، “أجمل ما في الغربة، أنها تجعل من الغرباء أصدقاء ومن الأصدقاء إخوة “٠ أما عندما كنا نجتمع نحن معشر اللبنانيين،سواء كنا أصدقاء، أم مجرد معارف لنتسامر بلغة واحدة عن وجع واحد وذكريات بلد واحد، ونتداول القصص والأخبار عن الاهل الوطن ، كنا نغوص بسياسته وتاريخه منذ أيام الحرب الأهلية اللبنانية والظروف الأليمة التي كان يمر بها٠ كنا نتشارك ألأراء بنفحة واحدة وبمحبة وأمل بالفرج القريب، وبعودة لبنان كما كان بلد السحر والجمال، بلد الأمن والأمان، بلد الخيرات والسعادة للجميع٠
اللبناني في غانا كان دائما العنصر الفعال في إقتصادها وإزدهارها، والجالية اللبنانية، كانت وما زالت ناشطة في التجارة والصناعة ومختلف الحقول العمرانية والثقافية بنجاح متواصل، لذلك عين رئيس جمهورية غانا الاسبق johne kufuor الذي إنتخب سنة ٢٠٠١ زوجي سعيد فخري مستشارا إقتصاديا له سنة ٢٠٠٤ حتى إنتهاء ولايته سنة ٢٠٠٩.
كتبت ليليان عقل في كتابها “مغتربة في وطنين ” بإسلوب وجداني رفيع ،معبرة بإحساس مرهف عما يعيشه المغترب اللبناني، عازفة على إيقاع الحنين والعواطف تجاذبات عابرة للقارات ٠لقد إستمتعت بقراءة مخطوط هذا الكتاب الذي يعكس تجربة إمرأة لبنانية في الإغتراب الأفريقي، ويظهر تعلقها الكبير ولكنها ألأم، وبالوطن الثاني غانا٠حولت الإختلافات بين لبنان وغانا إلى غنى ثقافي عشته أنا أيضا بطريقة مختلفة عندما تعرفت خلال إقامتي في غانا من زوجة السفير الياباني على “الإيكابانا” (فن تنسيق الزهور على الطريقة اليابانية)٠هذا الفن الذي تعلقت وتعمقت به حتى أتقنت تماما لأتوج تجربتي هذه في عام ٢٠٠٤ بإصدار كتابي “إيكابانا الفن الياباني لتنسيق الزهور “ليكون أول كتاب من نوعه باللغة العربية٠
كتاب ليليان عقل “مغتربة في وطنين “يعكس تجربة كل مغترب إستمد من شوقه لوطنه طاقة تحدى بها ظروفه فأبدع…
حبكت ليليان أحرفها بمشاعر صادقة جعلت من كتابها مرآة لواقع إغترابي، عبرت من خلاله عن شريحة كبيرة من اللبنانيين في الإغتراب الأفريقي بقالب عاطفي مميز يعكس صفاء التجربة وغناها٠
٠٠ أتوقع النجاح لهذا الكتاب الصادق بوجدانيته التي لامست الروح بأنبل المشاعر وأرقاها٠
٠مقدمة كتاب “مغتربة في وطنين” (٧٧ صفحة من الحجم الوسط) الصادر عن دار سائر المشرق، للزميلة ليليان قربان عقل،اهدته إلى عائلتها التي” اصبحت الغربة معها وطنا”٠

*سفيرة النوايا الحسنة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي(عيش لبنان) في غانا٠

Leave a comment

0.0/5

Go to Top

في تقديمها كتاب “مغتربة في وطنين “سعدى الأسعد فخري”*: الأيام في الغربة تمر ببطء…وكل شجرة في حديقتي تسمع أنين غربتي واشتياقي