تنشر «البحار» نص المحاضرة القيمة التي ألقاها النائب الأول لحاكم مصرف لبنان الدكتور رائد شرف الدين في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي تحت عنوان: «بين استدامتين: أزمة عالمية وسياسة نقدية تنموية».
مقدمة
بداية، أتوجّه بتحيات مُحبّة وصادقة الى المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، أعضاء وإدارة وأميناً عاماً، منوّهاً بمناقبية مؤسسة الأستاذ حبيب صادق، الذي بقي، ورفاقه، أمناء على الإرث الثقافي الجنوبي الأصيل، واللبناني المنفتح، والعربي النبيل على مدى أكثر من نصف قرن، وشاكراً هذا المجلس الكريم على استضافته لي للمرّة الثانية، كي أتناول معكم كلمتي التي اخترتها بعنوان: “بين استدامتين: أزمة مالية عالمية وسياسة نقدية تنموية”، في هذا الصرح الذي طالما كان مؤتمناً وما يزال على استدامتين: ثقافية ملتزمة وأصالة منفتحة.
قد يتراءى لنا في نظرة أولية على مسرح الاحداث المالية العالمية خلال المئة عام المنصرمة أن النظرية التي تلقى رواجاً في تفسير الأحداث التاريخية، وهي أن “التاريخ يعيد نفسه”، هي الناظم الرئيسي لتوالي الأزمات المالية العالمية. ويذهب البعض الى حدّ إقران هذه النظرية بأخرى لها جاذبية خاصة، وهي “نظرية المؤامرة” من قبل الانظمة والقوى الرأسمالية الطبقية التي لا توفر فرصة إلا وتغتنمها لتراكم ثرواتها على حساب مصالح الشعوب والقوى العاملة، ومهما يكن اعتقاد كل منا بهاتين النظريتين أو عدمه، فمما لا شك فيه أن تكرار الأزمات المالية والاقتصادية يحمل في طياته ظروفاً موضوعية ودورات اقتصادية متشابهة، بالرغم من اختلاف الظروف الذاتية بحسب خصوصية كل حقبة تاريخية أو منطقية جغرافية.
بل إن هذا التكرار للأزمات هو الذي لعب دوراً رئيسياً في تحديد شكل وخصائص النظام المالي العالمي الحالي، والذي كان يتطور عند كل سقوط في أزمة، لكن دون أن يُكسبه ذلك مناعة كافية، فمنذ الأزمة العالمية الأولى في الولايات المتحدة الأميركية التي اندفعت عام 1792 مع تداعيات تأسيس أول مصرف مركزي أميركي، والأزمة الأولى للاقتصادات الناشئة التي وقعت عام 1825 في دول أميركا اللاتينية الحديثة للاستقلال عن إسبانيا آنذاك والتي شكّلت جاذباً للاستثمار البريطاني، بدأت سابقة المبادرات الإنقاذية للدولة والمصارف المركزية بالتبلور، ولا تغيب عن بالنا أزمة الكساد الكبير في أواخر عشرينات القرن الماضي، والتي أشعل شرارتها انهيار الأسواق المالية الأميركية في ذلك الحين، مروراً بأزمات حقبة الحرب الباردة في ثمانينات القرن الماضي، من أزمة الديون السيادية لدول أميركا اللاتينية، وأزمة المدّخرات والقروض التي امتدت على مدى عقد الثمانينات، وأزمتي انهيار سوق الأسهم الأميركي عام 1987 وانهيار “سندات الخردة” (Junk Bonds) عام 1989، وصولاًا لى أزمة هروب رؤوس الأموال الآسيوية بعد انتهاء الحرب الباردة عامي 1997 و1998، لتحطّ دورة الازمات رحالها في الأزمة المالية العالمية الأخيرة عام 2008 التي بدأت في السوق العقارية الأميركية، وتدحرجت لتضرب سوق الأسهم ومؤسسات مالية عالمية عملاقة، وما تبعها من عواقب ما نزال نعيش تبعاتها الى يومنا هذا. وإذا دقّقنا ببعض القواسم المشتركة لهذه الظواهر المأزومة، لوجدنا أنها تتجسّد في ثقافة استهلاكية مادية متفلّتة، فالحماسة المفرطة، والإشراف التنظيمي الهزيل، والتدقيق المنحرف، وعقلية القطيع (وهو الانسياق الطوعي بركب الجماعة المستثمرة)، والجشع المتمادي، إضافة الى الشعوب بعصمة المؤسسات المالية من الخطأ، كلها خصائص ساهمت، وتساهم في إنتاج هذه الحلقة المفرغة من الأزمات المستدامة.
في المقابل، وسط كل هذا الضجيج المشبع بتجاذبات العولمة ونزعات الهيمنة للدول والشركات المتعددة الجنسيات والسلطات الخاصة غير السيادية ومظاهر الجشع في بعض أوساط الصناعة المالية الدولية، ظهرت ملامح منظومة مالية عالمية تقوم على ركيزتين: ركيزة تنظيمية وأخرى تنموية. في إطار هذه المنظومة، تشكّل السياسة النقدية أحد أبرز عناصر الاستقرار والفعالية، إذ يقع على عاتقها تنظيم القطاع المالي المحلي والإشراف على سلامة أوضاعه عن طريق وضع الأطر الناظمة المحلية له، بالتماهي مع الأنظمة والمعايير المرعية التي تضبط النظام المالي العالمي، وعلى رأسها اتفاقيات بازل. كذلك، للسياسة النقدية دور اقتصادي تنموي مستدام، تتعزّز الحاجة إليه باضطراد مع تفاهم الازمات الاقتصادية، وتتفاوت طبيعته مع الرؤية الخاصة لكل سلطة نقدية والظروف الاقتصادية لكل دولة.
بناءً على ما تقدّم من واقعٍ مأزوم ودور تنموي مستدامين، سوف أتناول في الآتي من كلمتي بعضاً من الملامح الرئيسية للواقع المالي العالمي المأزوم، وسأعرض بعضها الجوانب التنموية للسياسة النقدية العصرية، لأختم بتجربة مصرف لبنان في صياغة سياسة نقدية تنموية مستدامة.
الاستدامة الأولى: أزمة مالية عالمية
تدلّ القواسم المشتركة التي ذكرنا للأزمات المالية المتعاقبة أن لتلك الازمات خلفيات سلوكية وثقافية وقيمية وأخلاقية تنعكس نتائج مالية واقتصادية. ومما ساهم في مضاعفة المخاطر والخسائر هو نمو اقتصاد اقتراضي ضخم شديد الاعتماد على الاقتراض، تنتشر فيه المتاجرة في العملات بهدف تحقيق أرباح قصيرة الاجل، وتتفاقم فيه حالات عدم الاستقرار الكامن في طبيعة الأسواق العالمية الفوضوية بسبب افتقارها الى إطار مستقر لتوجيه النظام النقدي الدولي. وبالتالي، سيطر التوجه نحو التكاثر المالي البعيد كل البعد عن عمليات التراكم الإنتاجي. فإذا أضأنا على الأزمة الأخيرة عام 2008، لاحظنا أن غياب البعد الأخلاقي والبنية الثقافية كان لهما الأثر البارز في خلق الازمة وتغذيتها. في هذا الإطار، سمح التوجه الليبرالي المتمادي بإزالة الكثير من أساليب الرقابة والضبط التي تشكّل عناصر أساسية لمبادئ الشفافية والمحاسبة. وقد أدّت هذه البيئة المتفلّتة الى تواطؤ البنية السياسية مع المنظومة التمويلية، لتدفع بهذه الاخيرة الى اتخاذ العديد من المبادرات التي استهدفت جني الأرباح بأسرع ما يمكن، دونما اعتبار المدّخرين بشكل خاص، والاقتصاد الوطني في المديين المتوسط والبعيد بشكل عام، الامر الذي ساهم بشكل تراكمي في خلق شروط الفقاعة العقارية وفقدان المصارف لملاءتها.
أما بعض الملامح المستقاة من الأزمة المالية، والتي يمكن استخلاص الدروس منها، فهي:
أولاً، أثبت النظام المالي العالمي أن هشاشته هي جزء لا يتجزأ من طبيعته، بحيث تتكوّن، وتزداد، هذه الهشاشة في فترات الطفرة الاقتصادية.
ثانياً، إن الاعتقاد بأن قوى السوق من شأنها تأمين استقرار النظام المالي أثبت خطاه، ذلك لأن المؤسسات التجارية التي تتوخى الربح وتخوض في المخاطر ينتابها الذعر عند حصول أزمات تهدّد جدارتها الائتمانية، مما يجعلها غير قادرة على تلبية حاجات السوق، مسبّبة اختلالاً في السوق، سرعان ما يتحوّل الى ازمة منهجية.
ثالثاً: لقد شاب عمل وكالات التصنيف الائتماني الكثير من الشوائب، لذا ينبغي التدقيق في كفاءتها ونزاهتها.
رابعاً: تتطلّب حركة رؤوس الأموال الواسعة والسريعة دولياً إعادة الثقة في استقرار النظام المالي المحلي، مما يحتّم توجيه الاهتمام الى تنظيم الرقابة على المصارف وشفافية المعلومات المالية.
خامساً، إن بناء بنية تنظيمية صارمة للنظام المالي العالمي عانى، وما زال يعاني، من التعثّر بسبب الضغوط التي تُمارس من قبل بعض أوساط الصناعة المالية الدولية لإضعاف هيكليّته. ومن شأن هذه الضغوط أن تغلّب المصالح المنظمة للصناعة المالية على المصلحة العامة، ممّا يندر بمزيد من الأزمات.
سادساً، يجب توسيع نطاق التنظيم المالي ليشمل كل المؤسسات المالية، خاصة تلك التي تهدّد الاستقرار المالي، وبالتحديد مؤسسات صيرفة الظل التي طالما كان تنظيمها ضعيفاً.
سابعاً، لا بدّ من إعطاء مسألة الإشراف على السيولة الأهمية اللازمة، في حين أنها لم تحز على الاهتمام المطلوب سابقاً.
ثامناً، يجب الإضاءة على الحوكمة المؤسساتية وسياسات الأجور المعتمدة في القطاع المالي”.
تاسعاً، من الضروري إنشاء برنامج للثقافة المالية لتعزيز هذه الثقافة لدى الجمهور، بحيث يشارك في تطويره وتطبيقه مجموعة من المؤسسات والوكالات الحكومية وغير الحكومية”.
عاشراً، أحد التحديات الهيكلية التي يواجهها النظام المالي ويغذيها، والتي ساهمت بشكل كبير في إطلاق الفوائض المالية التي مهّدت للأزمة، هو الفجوة الشاسعة في المداخيل والثروات”.
الاستدامة الثانية: سياسة نقدية تنموية
المعادلة بسيطة، من أجل مواجهة استدامة الأزمات المالية، ينبغي السعي الى تفعيل استدامة مقابلة، وهي سياسة نقدية تصبو الى النمو والتنمية. تتكوّن هذه السياسة النقدية من شقين: شق تنفيذي وآخر تنظيمي. وينعكس كل من النمو والتنمية في الشق التنفيذي عبر جزءيه التقليدي وغير التقليدي، ففي الجزء التقليدي من السياسة النقدية التنفيذية تسعى السلطة النقدية الى تحفيز النمو وتعزيز التنمية عبر وسائلها وأدواتها التقليدية كالمحافظة على الاستقرار النقدي وسعر الصرف، وحماية سلامة النظام المالي والقطاع المصرفي، وتحقيق معدلات تضخّم متدنية واستقرار في الأسعار، والسعي الى تحقيق توازن في ميزان المدفوعات، وتمويل عجز المالية العامة وإدارة الدين العام، بالإضافة الى إدارة العرض والطلب للكتلة النقدية.
أما الجزء غير التقليدي من السياسة النقدية التنفيذية فيتركّز حول إضفاء بعد اجتماعي وأخلاقي وتنموي على أداء السلطة النقدية وتحشيد الجهود الرامية الى تعزيز المسؤولية الاجتماعية – الاقتصادية لديها، خاصة في مواجهة الأزمات. لذا، فقد تغيّرت طبيعة عمل المصارف المركزية وتعزز دورها في اقتصادات العالم، فلم تعد تعتمد فقط على الأدوات التقليدية في تنفيذ سياستها النقدية، بل أصبحت تلجأ الى هندساتٍ إضافية في سبيل إفادة الاقتصاد والمجتمع. وفي هذا السياق، تتمحور المبادرات غير التقليدية للسياسة التقليدية حول قضايا حيوية، منها:
أولاً، مساندة الحكومات في خلق الظروف المؤاتية لتحقيق النمو المستدام، وتوفير الإمكانات لإعادة إحياء سوق العمل، وتحصين الأمن الاجتماعي والبيئي والتنمية المستدامة، وصولاًا لى إطلاق المبادرات التحفيزية للاقتصاد.
ثايناً، تقديم المبادرات التي تهدف الى ردم الفجوات الشاسعة في المداخيل والثروات، عبر تطوير اقتصاديات السلع العامة المحلية أو الإقليمية أو العالمية (تطوير اقتصاديات السلع العامة المحلية أو الإقليمية أو العالمية (سلع عامة مجانية ذات منافع صحية – كالمستوصفات، بيئية – كالمنشآت الصديقة للبيئة، تعليمية – كالمكتبات العامة ومراكز الأبحاث، ثقافية – كالنشاطات الثقافية وخدمة الإنترنت، ترفيهية – كالحدائق العامة والمهرجانات…)، وتعزيز الاستثمار الاجتماعي الذي ينبغي أن يكون مستداماً وذا منفعة اجتماعية ولا يبغي الربح الفوري فقط، فالتحدي يكمن في إيجاد سياسات اقتصادية توائم بين استقرار الأسعار والحماية الاجتماعية.
ثالثاً، إيجاد توازن ما بين التمويل الإقراضي والتمويل المساهم، بهدف التخفيف من عبء خدمة القروض وتوزيع المخاطر.
رابعاً، انتهاج السياسات الكفيلة بتطبيق الحداثة عبر مواكبة التطورات المعرفية والتفنية التي تغزو الانظمة المالية والمصرفية، وتطوير المواد البشرية للنظام المالي والقطاع المصرفي بناءً على ذلك. كذلك السعي لبناء أنظمة دفع آمنة ومتطورة، وتنظيم الآليات الحديثة لقطاع التقنية المالية (Fin Tech) المعنية بتقديم الخدمات والعمليات المالية والمصرفية بالوسائل الإلكترونية. هذا بالإضافة الى السعي لإقامة نوعٍ من الشراكة التقنية – المالية التي تحقّق تكاملاً بين القطاعين المصرفي والاتصالاتي، بهدف مواكبة التطورات التقنية العالمية في هذا المجال، والتي تؤدي، بدورها، الى تعزيز البيئة التنافسية وتخفيض كلفة الخدمات المالية والتخفيف من مشكلة الإقصاء المالي للمستخدمين.
خامساً، تشجيع ظواهر الاقتصاد الإنتاجي، بعيداً عن آفات الاقتصاد الريعي، وإطلاق المبادرات الهادفة الى تحقيق التجدد الحضاري عبر تعزيز اقتصاد المعرفة والبناء على رأسماله البشري.
وللشق التنظيمي من السياسة النقدية حصته في رفد التنمية. فالسلطة النقدية هامش واسع من القدرة على إيجاد بيئة تنظيمية حاضنة للنمو والتنمية المستدامين، لما تتمتّع من صلاحيات تنظيمية على صعيد النظام المالي والقطاع المصرفي. من هنا، يمكن للسياسة النقدية ممارسة المهام التنظيمية التالية دعماً للتنمية:
أولاً، تحصين الاستقرار المالي من خلال تأمين إطار تنظيمي ورقابي عصري وحصين يضمن سلامة النظام المالي والقطاع المصرفي، بما يتناسب مع المعايير والقوانين المالية الدولية، حفاظاً منه على الثقة في هذا النظام.
ثانياً، تعزيز مبادئ الحوكمة المؤسساتية والإدارة الرشيدة في المصارف المركزية والقطاع المصرفي ككل، وفي مقدّمتها الشفافية والمساءلة، لما لها من أثر على مكافحة قضايا الفساد وتحقيق أعلى درجات الكفاءة في النظام المالي.
ثالثاً، تعزيز الثقافة المالية لدى المستهلك كي يدرك حقوقه وواجباته ويقيّم المخاطر في سبيل اختياره للخدمات الملائمة لحاجاته، إضافة الى إيلاء الاهمية للابتكار المالي وحماية المستهلك، من أجل تأمين الوصول للخدمات وملاءمتها لحاجاته عبر تحسين الشفافية في عرض الخدمات المالية للمستهلك وإزالة القيود والحواجز المفروضة. وكل هذا يصب في تعزيزا لشمول المالي، بحيث يتمكن كل مواطن من الوصول الى مصادر التمويل بأقل الأكلاف.
مصرف لبنان وتحدي الاستدامتين
يمارس مصرف لبنان صلاحياته كسلطة نقدية برؤية تنموية شاملة ومستدامة، واضعاً نصب عينيه تجاوز التحديات التي تفرضها الأزمات المستدامة التي يشهدها النظام المالي العالمي وسط تداعيات أزمته العالمية، وتعاني منها منطقتنا بإرهاصاتها المفصلية على المستويين السياسي والاقتصادي، ويعايشها وطناً عبر تعثّر مؤسساته وأعباء اقتصاده. لذلك، تبرز الأهمية الاستراتيجية للدور الحيوي الذي ينبغي للسلطة الاقتصادية – النقدية والقطاع المصرفي – المالي أن يلعباه في صيانة وتفعيل الأمن الاجتماعي – الاقتصادي في أبعاده المالية والتنموية لسد ما يمكن من ثغرات على الصعيد الاقتصادي – الاجتماعي – التنموي. في هذا السياق، تأتي توجهات مصرف لبنان في انتهاج سياسة نقدية غير تقليدية تقوم على مبادرات وهندسات توزن بين صيانة الاقتصاد وتنمية المجتمع.
هذه السياسة أضحت نموذجاً يُحتذى به في المصارف المركزية العالمية، حيث أثبتت جدواها في مواجهة التحديات. ويمكن تلخيص أهمّ مظاهر هذه السياسة بالحديث عن جانبين في ما يخصّ سياستنا النقدية: الجانب التنفيذي، والجانب التنظيمي.
في الشق التنفيذي، دأب مصرف لبنان على أداء دوره النقدي والمالي التقليدي على أكمل وجه، مدعوماً بسلّة من الادوات. ومن أهم ملامح هذا الدور، أولاً المحافظة على الاستقرار النقدي وسعر الصرف، مدعوماً بموجوداته من العملات الأجنبية التي بلغت مستويات قياسية تعدّت الـ 39 مليار، يضاف اليهامخزونه الوفير من احتياطات الذهب الذي يشكل صمام أمان للاقتصاد. ثانياً، تأمين استقرار معدّلات الفوائد، وتأمين مصادر التمويل للقطاعين العام والخاص، بحيث بلغ معدّل الشمول المالي في لبنان نسبة 47 بالمئة مقاربة بـ18 بالمئة في الدول العربية. ثالثاً، تأمين نظام دفعٍ محلي وآمنٍ ومتطور. رابعاً، إدارة فائض السيولة التي تجاوزت الـ16 مليار دولار، من خلال إصدار شهادات الإيداع وتشجيع التسليف بالليرة اللبنانية، بما يجنّب البلاد مخاطر التضخم الذي حُصر ضمن سقف الـ4 بالمئة. خامساً، تطوير الأسواق المالية، حيث أُنشئت لهذه الغاية هيئة الأسواق المالية. سادساً، إدارة الدين العام للدولة اللبنانية بشكل مجدٍ وفعّال يهدف الى الاستثمار في تأمين ملاءة الدولة اللبنانية.
أما الدور التنفيذي غير التقليدي، فقد تميّز بنجاعته في ابتداع المبادرات وابتكار الحلول في موجهة التحديات الاجتماعية – الاقتصادية – البيئية من خلال إطلاق المبادرات التحفيزية للمصارف في مجال التسليف الى القطاع الخاص والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة بغية الاستثمار في القطاعات الانتاجية والسكنية والبيئية والتعليمية، وتأمين مزيد من فرص العمل وإعادة تكوين الطبقة الوسطى، وذلك بفوائد مقبولة عن طريق إعفاء المصارف من جزء من احتياطها الإلزامي وتوفير قروض لها بفوائد متدنيّة. في هذا الإطار، تخطّت القروض السكنية المئة ألف، وبلغت قروض التعليم الجامعي خمسين ألفاً. وقد بلغ مجموع قيم الرزم التحفيزية منذ إطلاقها العام 2013، ما يوازي الـ5 مليارات دولار، مساهمة بـ50 بالمئة من النمو المحقّق خلال الأعوام 2013 و2014 و2015. ونظراً لاستمرار الصعوبات السياسية والاقتصادية وانعكاساتها على النمو الذي يتوقّع أن يقارب الصفر بالمئة هذا العام، اتخذ المجلس المركزي قراراً بإطلاق رزمة تحفيزات جديدة للعام 2016 تبلغ المليار دولار. هذا فضلاً عن تأمين موارد الرسملة لقطاع اقتصاد المعرفة والشركات الناشئة، بابتكار هندسة مالية تضع بتصرّف هذا القطاع نحو 500 مليون دولار بهدف دعم جهود الابتكار والإبداع في أوساط الشباب بشكل خاص. وقد تمّ توظيف أكثر من 250 مليون دولار في هذا القطاع حتى الآن، والذي يُعتبر قطاعاً واعداً للبنان، كما القطاع المالي وقطاع النفط والغاز.
في الشق التنظيمي للسياسة النقدية، أثبت مصرف لبنان امتلاكه حساً تنظيمياً متميزاً من حيث أسبقيّته على الصعيد العالمي في إرساء القواعد والسياسات لنظام مصرفي – مالي آمن ومستقر، مما مكّنه من تجنّب كثير من تداعيات الأزمة المالية التي عانت منها، وما تزال تعاني، دول كثيرة، منها ما هو في مصاف الدول المتقدّمة والغنية. في هذا المجال، قام مصرف لبنان بتطوير نظام مصرفي موثوق بتميز بتقيّده الصارم بالمعايير والمواصفات الدولية المصرفية والمحاسبية. ومن أهمّ سماته: أولاً، الاستقرار المالي القائم على تحقيق مستوى سيولة مرتفع وكفاية رأس مال والحد من المديونية. وقد أنشأت لهذه الغاية وحدة الاستقرار المالي في مصرف لبنان. ثانياً، السعي لتطبيق مبادئ الإدارة الرشيدة وحماية المستهلك، حيث أنشأ مصرف لبنان لهذه الغاية وحدة الإدارة الرشيدة. ثالثاً، تطبيق المعايير الدولية الخاصة بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. وقد جاء الإقرار الأخير في مجلس النواب للقوانين المتعلقة بحركة الأموال عبر الحدود ومكافحة التهرّب الضريبي والتعديلات على قانون مكافحة تبييض الأموال ليحصّن العمل المصرفي ويبقى لبنان على الخارطة المالية العالمية. رابعاً، اتخاذ كل التدابير اللازمة وإصدار التعاميم المطلوبة لمواجهة المخاطر الخارجية، بما يحفظ سمعة لبنان ويمنع الأموال غير الشرعية من الدخول الى السوق المحلية.
الخاتمة
ختاماً، تعبّر بعض الأوساط المالية المطلعة عن قلقها الشديد إزاء المشهد المالي العالمي الذي ما زال يئنّ تحت وطأة تبعات الأزمة العالمية، في ظل الانكماش الاستثنائي الذي تعيشه العديد من مناطق العالم، والبداية غير المبشّرة التي افتتح بها العام 2016 أداءه المالي بالتراجع القياسي الحادّ في الأسواق المالية العالمية. ومهما يكن من مدى استفحال هذا الواقع المأزوم وتفشي عواقبه، سوف يستمرّ مصرف لبنان على استدامة سياسته التنموية، موقناً أن للبنان قدراتٍ كامنة كثيرة ما زالت تنتظر ظهور رؤية وإرادة مستدامتين.