يوماً بعد يوم أصير أبعد من تاريخ وفاة أمي ولكني أغدو أقرب منها .
فحضورنا الجسدي بجانب الأشخاص لم يكن يوماً شرطاً لاقترابنا منهم عاطفياً ، كم من أشخاص نعيش معهم وشَغَلَ غيرهم تفكيرنا.
وأحياناً نقترب من البعض عند مغادرتنا لهم أو مغادرتهم لنا فنرى الأمور عن بُعد ونفسرها بطريقة مختلفة عن ما اعتدنا أن نفعل وهكذا نفهمها أكثر بعد أن نقيسها من زوايا مختلفة وبعد أن كانت تغيّرت شخصيتنا ونضجنا أكثر واستفقنا على الحياة وكأننا نولد من جديد.
أمي تعيش معي وتنام إلى جانبي وأجدها في أوقات الشدة تنصحني أو تُأنّبني. فأدعو اللّه كما كنت أفعل في سنواتي الماضية و أفتتح دوماً دعائي بها هي النعمة الكبيرة التي أنعم اللّه بها عليّ في حياتي تماماً كما أنعمَ على كلًّ منّا بشيء مميّز في حياته يُسعد به قلبه, ويُرَبّت على كتفه ويذكره أن هناك ما في الحياة يستحق المناضلة, استشعار وجود اللّه في حياتنا هو أغلى ما يمكن أن يُهدا الإنسان من اللّه. فكيف إذا أنعم اللّه علينا بأكثر من نعمة..
قبل مرضها كنت أدعو أن يحفظها اللّه لي، وأن لا يحرمني من أُُنسها ويسمح لي أن أوفي جميلها لي على قدر استطاعتي. أمّا في فترة مرضها كنت أدعو لها بالشفاء فبحثت عن ألف طريقة لكي أحاول أن أساعدها لتنجو من الموت.
الآن وبعد وفاتها إني أدعو اللّه أن يُدخِلَ السعادة لرُوحها أينما وُجدت وأن يرزقها الفردوس الأعلى ويجمعني بها.
منذ أيّام وأنا أقرأ مقالاً عن الوعي واللاوعي عند الإنسان وكيف السبيل لتحكُّم الإنسان بهما لفتني أمر ما.
هدف المقال كان التمييز بين إستحضار هذان الإثنان فدوماً عند إدراكنا ما يحدث لنا نصبح أكثر قدرة على التغيير والتحسين.
فقرأت أن عندما يُصرّ الإنسان على تنفيذ أمرٍ معيّن بتركيز هنا يستحضر العقل الواعي، أمّا عندما يشُت أو يشرد ينتقل إلى اللاوعي بغفلة منه، فيتصدّر العقل اللا واعي التحكّم بإدارة الأمور.
وهنا تنكشف أسرار الإنسان فيبدأ كل ما حاول إخفائه من علامات وطباع وعادات ورغبات كان قد سَترها بالظهور, تلك الطباع والأفكار التي قد كان سابقاً بمحاولة منه إخفاءها أمام من يريد وخلال هذا الوقت بالذات ينكشف معدن الإنسان. وإجمالا” لا يظهر ذلك إلاّ أمام من يرتاح لهم الشخص سواء كانوا أهله أو أصدقاءه ولا يظهر لشخص لا نعرفه أو من تعرّفنا عليه مؤخراً.
فاستحضرت حالة اللاوعي لديّ اليوم وماذا أفعل عندما يغيب الوعي لدي وقارنته ب الاوعي لديّ في الماضي وشعرت بالتغيير شعرت بالتطوّر والتقدم و فرحت واستشعرت كم ينقصني أن أبذل من جهد لأثقُلَ نفسي وأصبح ما أريد و خاصة عندما ينتقل الاوعي ليتحكّم في شخصيتي، كم جميل أن يخرج منّي كلَّ عمل إحسان..
ثمّ ما لبثت أن خطرت ببالي أمّي كم “اللا وعي” عند أمي “خامٌ” وكيف استطاعت أمي رغم كل ما اختبرته من ألم أن تُبقي هذا الخام طاهر لآخر يومٍ في حياتها. وما سرُ ذلك؟ ما الذي صبّرها؟ وما كانت ترى؟
لم يقف تعليمها لي عند وفاتها فكل يومٍ في حياتي أستعيد ما عشناه سويَّا وأتعلم منها الكثير.
أمّي لم تحظى بشهاداتٍ عالية و لم تثبت براءة إختراع في مجالٍ ما و لكن إنسانيتها كانت أجمل ما تعرّفتُ عليه في حياتي. أمي معجزة إستطاعت تحويل كل ما لمسته إلى “جميل”, أمي رسمت إبتسامة كبيرة على وجهي وزرعت في قلبي خلال حياتي سعادةً لا توصف، هذه السعادة تَرفض عن تُزال عن وجهي حتى بعد وفاتها. أليس هذا بغريب؟ لم أختبر شيئاً كهذا من قبل ولم يترك أحداً أثراً جميلاً في حياتي بهذه القوة وهذا الأثر. هل لأنها “أمي” أو لأنّ شخصها ذو طباعٍ مميز ؟ أليس هذا ما علينا فعله جميعاً؟ ترك أثر جميل في قلوب بعضنا البعض لنُذكَر بالخير حتّى بعد مغادرتنا الحياة الدنيا؟
أنا كل يوم في طور إكتشاف أمي. شعلةُ الخير اللا محدودة. تركت لي كنز لا أفرغ من تفسير تصرّفاتها و أفعالها. كنت أظن الأمور أبسط بكثير عندما كنّا نعيش معاً. كم كُنتُ ساذجة
بقلم فدوى إبراهيم غمراوي